كان
ابراهيم عليه السلام قد كبر ونالت منه الشيخوخة منالها ولم ينجب أبناء,
وكان يدعو ربه دائماً أن يرزقه الولد فأحست سارة برغبته هذه فقالت له: يا
ابراهيم, إني عاقر,

وأحب أن يرزقك الله بولد ولذلك فإنني سأهب لك جاريتي هاجر لكي تتزوّجها,
فقد يرزقك الله بل ويرزقنا جميعاً منها ولداً تقرّ به أعيننا!!
صمت ابراهيم قليلاً وحذر سارة من الغيرة اذا أتمّ هذا الأمر,
فقالت سارة في ثقة واطمئنان تعودان إلى عاطفة وحنان متدفقين منها وهي أنثى شأنها شأن حواء على وجه الأرض,
تحكم الأمور وتغلبها على الأرجح بعاطفتها, قالت: لا تخف يا ابراهيم, لا تخف.
تزوّج ابراهيم عليه السلام من هاجر التي وهبتها له سارة
ومرّت أيام جميلة سعيدة فحملت هاجر وولدت
لإبراهيم عليه السلام ولداً جميلاً وضيئاً أسمّاه اسماعيل.
وجاء اسماعيل بفرحة كبيرة دخلت على نفس ابراهيم عليه السلام
فأحب ابراهيم عليه السلام اسماعيل حباً كثيراً, فكم من مرّة حمله وداعبه,
واستمرّت الأحوال في البيت النبوي الكبير هانئة سعيدة بوليدهم الصغير,
فأبو الأنبياء سعيد غاية السعادة يشكر ربه ليل نهار ويسبّح بحمده على ما أفاء عليه من نعمة الولد وهو في هذا السن المتقدم.

وفجأة دوت في البيت النبوي الكبير مفاجأة كان مصدرها السيّدة سارة, فقد خرجت الأنوثة لطبيعتها تعبّر عما يجيش في صدرها دون تكلف,
دبّت الغيرة في نفس الأنثى سارة وهي شأنه شأن بنات جنسها لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها
ولا أن تغيّر فطرة النساء وبنات حوّاء, جاهدت نفسها وكظمت غيظها,
وحاولت أن تفعل شيئاً, كانت تعلم أن هذا الأمر سيزعج ابراهيم عليه السلام ولكن نفسها لم تقاوم جبروت الغيرة,
اقتربت من ابراهيم قليلاً وتهاوت الدموع من عينيها قطرات وقالت في صوت متهدج:
يا ابراهيم؛ اني لا أستطيع أن أساكن هاجر وابنها بعد اليوم, فانظر لنفسك ولها أمراً. وهذا ما كان يخشاه ابراهيم.
ظنّ ابراهيم عليه السلام في البداية أن الأمر بضع خطوات وينتهي الأمر بمسكن جديد قريب لهاجر وابنها,
ولكن سارة ذهبت مذهباً بعيداً, قالت:انني لا أريد أن تسكن هاجر بلداً أسكنه..




ولما كان بين
إبراهيم
وبين أهله ما كان (من أمر الغيرة بين زوجته الحرة سارة العقيم وبين هاجر أم ولده إسماعيل) ،
وأمر الله إبراهيم أن تسكن هاجر وإبنها الحجاز ، جاء
إبراهيم
صلى الله عليه وسلم بأم إسماعيل (هاجر) وبإبنها إسماعيل
وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت تحت دوحة (شجرة) فوق زمزم من أعلى المسجد ،
وليس بمكة يومئذٍ أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جراباً (كيساً) فيه تمر وسقاء
(قربة) فيه ماء .
(يرجع
إبراهيم
منطلقاً ، فتتبعه أم إسماعيل) .
هاجر :أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شئ ؟
جعلت هاجر تقول ذلك
لإبراهيم
مراراً وهو لا يلتفت إليها .
هاجر:آلله آمرك بهذا ؟
إبراهيم
: نعم .
هاجر :إذاً لا يضيعنا الله ..
قالت هاجر المؤمنة بربها على الفور: إذن توكل على الله, فقد وكلتنا الى من لايضيع عنده الرجاء.

وفي وداع يحمل هيبة الإيمان وجبروت المشاعر, ترك
ابراهيم عليه السلام هاجر ووليدها الطفل الصغير اسماعيل
ومضى وأحسب أن الدموع قد احتبست في حدقات هؤلاء البشر منها دموع طفل أنهكه السفر,
وأقلقه أم ّ تضطرب أمام تجربة لم تعهدها من قبل.

ومضى
ابراهيم منصرفاً عن زوجته وابنه, فلما صار على مرمى النظر منهما, رفع رأسه وابتهل في دعاء خاشع فقال:
{
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
} ابراهيم 37.

مرّت الأيام وعطش اسماعيل وبكى وهرولت هاجر من وادي المروة الى جبل الصفا وكررت, وتفجّر بئر زمزم,
وشرب اسماعيل من عين عذبة خصصت لضيوف الرحمن, ولم تخف هاجر الضيعة فهنا سيبني خليل الله بيت الله.

وكانت عين زمزم التي تفجر ماؤها خير شيء في هذا المكان رغبة المارّة, فنزلوا بها,
وأقاموا أوقاتاً الى جوارها للإستراحة والإستسقاء.
وراق لإحدى قبائل العرب أن تنزل بجوار وادي مكة, وهي قبيلة جرهم, فاستأذنوا هاجر, فأذنت لهم, فوجدت إلى جوارها من تستأنس به, وتطمئن الى جواره.
وعمرت مكة بهذه القبيلة وأصبح الوادي عامراً بالناس والإبل والماشية والطيور, وتحققت دعوة
ابراهيم عليه السلام عندما دعا لها وهو مغادر هذا الوادي
قاصداً بلاد الشام وفلسطين التي تسكنها سارة حين دعا ربه قائلاً: { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} ابراهيم 37.
وفي بلاد الشام شعر
ابراهيم عليه السلام بحنين لرؤية ابنه اسماعيل وزوجته هاجر,
وجاء خليل الله
ابراهيم ليرى ما فعل الله بوديعته, فوجد عمراناً وناساً وخياماً, وحياة تدب في كل مكان,
حتى ظن أنه قد ضلّ عن وادي مكة الذي ترك فيه اسماعيل وهاجر بأمر ربه, فقد كان وادياً غير ذي زرع, حتى أنه سأل:

أهذا وادي مكة, أهنا تسكن هاجر واسماعيل؟ .. عرف
ابراهيم عليه السلام أنه وادي مكة.

ومضى خليل الرحمن يبحث عن خيمة هاجر وابنه اسماعيل بلهفة ما بعدها لهفة, وشوق ما بعده شوق,
لقد كثرت الخيام وتعددت, ولكن خيمة هاجر شهيرة, معروفة لدى العامة في مكة. فأرشده الناس اليها.
نظر
ابراهيم الخليل عليه السلام في وجه طفله المشرق, فسرّه سروراً كثيراً, وفرح به فرحاً وفرحت هاجر بلقاء زوجها وشكرا الله
على ما أولاهما من نعم, وعلى ما حباهما من عطف.
وظلّ هذا حال
ابراهيم عليه السلام يأتي الى أسرته الصغيرة الجميلة بين الحين والحين لرؤية اسماعيل وأمه.
وفي كل مرّة كان
ابراهيم يصلي ويسجد شكراً لله عز وجل الذي أقر عينه بجمال طفله وهو في هذه السن البعيدة والعمر المتأخر,
ولم تكن هذه نعمة الله الوحيدة على
ابراهيم الخليل عليه السلام, ولكن الله أفاء عليه بالكثير الكثير من النعم والعطايا. وأكبرها نعمة الإيمان.