ها أنا أطفئ آخر شمعة من الثمانية وعشرين شمعة المغروسة بحب في كعكة الميلاد التي اشتراها اليوم لي صديق طفولتي وشبابي يوسف لنحتفل بهزيمة الأطباء..."كذب الأطباء....ولو صدقوا"!!!!!
وبعد أن أنفخ الروح منها....سنشعل المائة والستين الشمعة الأخرى المترامية في أنحاء منزلي الصغير...جو شاعري أليس كذلك؟....قد يكون كذلك إن لم تكن معتادا العيش على ضوء الشموع.....ولكن إن كنت مثلي....فلن تتأثر...
منذ أن بدأت أفهم...وأنا أعلم أنني لست طفلا عاديا....أنني لست كبقية الأطفال الذين كانوا يأتون ليلعبوا معي في حديقة المنزل....تحت جنح الظلام...
بل أنني وبعد أن نطقت كلمة بابا.....وبعد إصرار وإلحاح من أمي....كلمة ماما....نطقت جُفاف الجلد.....وحين بلغت الخامسة استطعت أن اكتب الاسم بالعربية.....وباللغة الإنجليزية: Xeroderma Pigmentosum .....بينما معظم من أقابلهم لا يستطيعون نطق الجزء الأولحتى الآن....أو ربما لا يحاولون خوفاً من العدوى!!!!
جفاف الجلد مرض جيني يصيب النخبة فقط.....أو هكذا أحب أن أعتقد.....من بين كل 250.000 شخص، واحد فقط يولد باضطراب في الجينات مثلي.....وبسبب هذا الاضطراب فإنني أتأثر بأضعف شعاع ضوء....أو على الأصح بسبب هذا الاضطراب فإنني معرض بدرجة كبيرةللإصابة بسرطاني الجلد والعين الذين يسببهما التعرض للأشعة فوق البنفسجية....أي إني إن تعرضت للشمس...نعم ذاك النجم الذي يضيء ثلاث أرباع اليوم لا غير....أو إن جلست تحت مصباح متوهج...أوقرأت كتابا في ضوء مصباح فلوري....أو ارتحت أمام وجه التلفاز البراق الغبي.....لمدة نصف ساعة فقط...فسوف أعاني من حروق شديدة.....وتقيحات جلدية....
ليس بالأمر المستحب أبدا!!
المخيف حقا بمرضي....هو أنني في كل مرة أتعرض للأشعة هذه....ولو لفترة قصيرة جدا....فإن الثوان التي أعيشها في هذه الدنيا تقل لأن تأثير الأشعة من النوع متراكم... دعني أشرح لك قليلاً ماذا أعني بمتراكم.... إن تأثير ستمائة دقيقة في الشمس....مقسمة دقيقة دقيقة لمدة عام كامل هو ذاته التأثير إن جننت وبقيت في الشمس لمدة عشر ساعات متواصلة في أشد الأيام حرارة في شهر تموز.... وسأخرج بالنتيجة ذاتها ..... جروح ظاهرة وأورام خبيثة ..... وهي النتيجة الغير مرجاة طبعا.....
لهذا أخبر الأطباء والديي حين مولدي أن يستعدا لوفاتي قبل أن أتم الرابعة عشر......متوسط عمر من ينتمي إلى نادي النخبة...
لكنهم كذبوا.....فها أنا أكمل ضعف هذا المتوسط....وأحتفل بهذا اليوم .... دون أبي أو أمي.... فقد توفيا قبل خمس سنوات في حادث سيارة.....
حين أخبرت عن الحادث....لم أصدق....ولم أتقبل الأمر....كيف تستطيع أن تقبله وأنت تعرف منذ صغرك أنك ستموت قبل من تحب جميعا....
وأنت تعرف أنك تعتمد اعتمادا كليا عليهم في حياتك.....
وأنت تتمنى الموت كل يوم....حتى يتسنى لوالديك أن يعيشا في منزل نوافذه مشرعة طول الصباح....ومصابيحه تضيء سواد الليل....وتلفازه يشع بلا توقف.....
كيف تقبل وفاة والديك.... قبلك..... قبل أن يستطيعا أن يخرجا معا في الصباح... أن يذهبا إلى الشاطيء.... أن يتمتعا كبقية الآباء والأمهات دون أن يكبلهما الخوف على ابنهما.....المعاق....نعم معاق.....

نسى الأطباء أن يعدوني لذلك كما نسوا أن يخبروني ما سأعانيه من سكان منطقتي الذين لا يريدون "مصاص دماء" يجول في شوارعهم في منتصف الليل.....أو كما يسميهم يوسف "الأغبياء"...حسناً....إنه يلقبهم بأشياء أخرى....ولكنني سأكتفي بهذا فقط هنا....

كان يوسف من الأطفال الذين يزورونني في الليل.....لكنه الوحيد الذي ظل صديقا لي....بينما لم يفضل الآخرون أن يختلطوا بمن ليس في مدرستهم..... وبمن لا يخاف الظلام وكائناته...... وأنا... ابن الظلام....ورفيق البومة والخفاش....

حين وصلت سن المراهقة.... سمح والدي لي بالخروج من الحديقة إلى الشارع.....وأن أتجول في المنطقة مع يوسف على دراجتينا.....
وبسبب التجوال علمني يوسف كيف أدافع عن نفسي..... ضد المراهقين السيكوباتيين..... الذين يقضون الساعات لتخطيط تعذيبي.....
من خططهم التي حاولوها معي.... محاصرتي في زاوية ثم تعريضي لكشافاتهم اليدوية..... وفي مرة أخرى.... حاولوا تقييدي وإبقائي حتى تسطع الشمس..... لكن المحاولتان باءتا بالفشل لأن يوسف كان دائما موجودا لنجدتي.....

وبعد وفاة والديي.... أخذ يوسف طواعية مهمتهما.... فهو من يجلب لي الطعام وجميع احتياجاتي من الخارج....
وهو من يحدثني عن الأحداث التي تدور في منطقتنا في النهار....
ولا زال يخرج معي على الدراجة.....حتى بعد أن تزوج....وأصبح أبا....وامتلك سيارة......الثلاث الأشياء التي سأموت دونها
فلن أتزوج.....
من تقبل أن تتزوج من إنسان محكوم عليه بالموت بشكل مقزز.....وإن آمنت بالله .....فهل ستستطيع أن تعيش في الظلام....أربع وعشرين ساعة في اليوم!
ولن أكون أبا....
فالأبوة حلم مستحيل.....وإن كنت أحب عبد الرحمن...ابن يوسف...كما لو كان ابني......
حين أخبرني يوسف أنه سمى ابنه باسمي....لكمته في صدره....وعاتبته....كيف يجني على ابنه بأن يسميه على اسم مريض مثلي....كيف يحكم عليه بسوء الحظ....
فأعاد يوسف اللكمة لي....وأخبرني أنه أسماه باسم أعز أصدقاءه....وأنني وأعز صديق له نتشابه بالأسماء فقط
فلكمته مرة أخرى.....ثم شكرته!
أما الأمر الثالث الذي سأموت دونه....فهو القيادة....فأنا لا أستطيع أن أقود أثناء النهار بالطبع.....وفي الليل هناك الخوف من أضواء السيارات القادمة....
الخوف....من الأشعة في كل مكان....هذه هي حياتي...
فأنا عكسك وجيناتي عكس جيناتك التي في غالب الأحوال تعمل بشكل صحيح كل يوم دون علمك....
فخلاياك الصحيحة تنتج إنزيمات تتخلص من الأجزاء المتضررة من الحمض النووي وتبدلها بأخرى جديدة....بينما خلاياي عاطلة عن العمل....
أنا لا بد أن أعيش في الظلال....بينما تحيا أنت تحت السماء الزرقاء....
ومع هذا...فأنا لا أكرهك....
ولا أبغضك لأنك تأخذ الحرية التي تعيشها ببساطة
لكني....أغبطك....
لا أكرهك لأنك مجرد إنسان....إمكانياته محدودة.....أي أنك معاق بطريقة أو بأخرى
فقد تكون... بسيط....أو بطيء الفهم....أو ذكي أكثر مما تحتاج....أو يفهم ويحتاج هذا العالم....
وقد تكون أصم...أو أعمى...أو أبكم....
وقد تكون حبيس اليأس....أو سجين كراهيتك لنفسك
وقد تكون ممن يهابون الموت ويخافون من قدومه!
لكن إن كنت أذكى وأوسم مني....وتتمتع بحواسك الخمسة جميعها تمتعا كاملا...
وإن كنت متفائلا أكثر مني......وعزة نفسك تفوق عزتي...
وإن كنت تشاركني هواية عدم تسهيل مهمة ملاك الموت...
فحينها.....وحينها فقط....قد....قد أكرهك....
ولكنني لن أكرهك....لأنني أعرف أنك إنسان.... مثل البشر جميعا في هذا العالم الغير مثالي....
وأنك تملك قلبا مشغوفا....وعقلا مشغولا... بحزن...أو بفقد حبيب....أو بشوق

"تمنّا"...همس يوسف لي وعيناي مغمضتان....وشفتاي مزموتان لأنفخ الشمعة الثامنة والعشرين
أتمنى؟.....ماذا أتمنى؟....
أتمنى أن أعيش حتى أرى عبد الرحمن أبا....ويوسف جدا
أتمنى أن استلقي على الشاطيء في الشمس.....أن أعمل مع يوسف....
أن أتزوج.....وأرزق بفتاة أزوجها لعبد الرحمن....وأقودهما في سيارتي إلى منزلهما....
أتمنى....وأتمنى....
"أتمنى أن يمكنني الله من الاحتفال ...... بهزيمة الأطباء....العام القادم!"