سلسلةٌ مترابطة معاً لا ينفصل بعضها عن بعض ..
وإحداها تُؤدي للأخرى .. والنّاتج عنها تراكماتٌ في القلب لا تنتهي !
وأحقادٌ مُتتابعة لا تنقضِي .. وقد نتحوّل من مظلومينَ إلى ظلمة
بسببِ كثرةِ الغيبة والنّميمة وسوء الظّنّ وكثرة المزاح والاتّهامات الباطلة ..
وكلها سنُحاسب عليها يوم القيامة
فهل لدينا عذراً نقدمه إلا تتبّع خطوات الشّيطان وهوى النفس ؟!
وأكثر خطايا بنِي آدم في لسانه ..
وأودّ هنا وضع مثالٍ على سوءِ الظّنّ وكيف أنّنا نتصوّر أمراً غير الواقع
ونصدّقه ونحكم به دون أن نحاولُ الوصول للحقيقة ..
ومثالنا قصةٌ واقعية حدثت لأختٍ في المطار .. تتحدّث عنها بنفسها ..
فتقول : أنهيت إجراءات السّفر والحقائب .. واشتريت كيساً من المقرمشات ( شيبس)
وجلست في غرفة انتظار السّيدات حتى يحين موعد إقلاع الطّائرة
وكان كيس المقرمشات بيني وبين امرأة بجانبي
فمددتُ يدي وأخذتُ أحد المقرمشات من الكيس .. ففوجئتُ بها تأخذُ واحدةٌ هي الأخرى !
استغربتُ ونظرتُ إليها .. فإذا بها تبتسم !
تكرّر الأمر وكرّرتْ النّظر إليّ وهي تأخذُ واحدةً تِلوَ الأخرى وتبتسم لي !
وقبل أن أكمل قصّتِي .. هل سألنا أنفسنا ماذا يكون موقفنا لو كنّا مكانها ؟!
..
وعند آخر حبّة .. مدّت المرأة يدها .. وأخذتها وقسمتها إلى نصفين
وأخذت نصفاً وأعطتني الآخر .. وهيَ تبتسم !!
كنتُ لا أزال مُستغرِبةً حتّى صعدت الطّائرة وجلستُ في مقعدِي ثُمّ فتحتُ حقيبتِي ..
وإذا بي أجدُ كيسَ المُقرمشات الذّي يخصُّنِي في حقيبتِي !!!
أرأينا ماذا يفعل بنا سوءُ الظّنّ ؟! فقد يكون الخطأ منّا ونعتقدهُ في غيرنا ؟
وكم نستهين به وهو من الظّلم .. لأنّنا نظلمهم باتّهامهم ..
وأحياناً يكونُ الظّلم في أشياءٍ تافهةٍ بنظرنا فلا نهتمّ بها ..
فقد نستعيرُ كتاباً أو قلماً أو صحناً .. ثم ننسى ولا نستسمح من صاحبه
وسنحاسب عليه ويُؤخذُ مقابله من حسناتنا يوم القيامة
فكم من ظلمٍ أثارَ حقداً في النّفوس ونحن لا نعبأ به ؟
وقد يؤدي هذا الحقد إلى التّدابر والتّقاطع بين الأحبّة والإخوان
وهم أول الخاسرين في هذا الأمر .. فكم مرةٍ تُؤجَلُ مغفرةُ الله لهما بسببِ التّدابر
فقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس
فقيل له ؟ فقال :
" إن الأعمال تُعرَضُ كلّ اثنين وخميس - أو : كلّ يوم اثنين وخميس - فيغفرُ اللهُ عزّ وجلّ لكلّ مُسلم - أو : لكلّ مؤمن -
إلا المتهاجرين ، فيقول : أخّرهما " * صحيح مسلم
هل فكرنا : منذُ متى ونحن محجُوبون عن المغفرة ؟
وفي الحديث ( هجرُ المُسلمِ أخاه كسفكِ دمِه ) فهل نطيقُ مثل هذا الإثم ؟
أليس الأولى بنا أن نشترِي جنّة لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشر ؟
ألا يكفينا قولُه تعالى ( فَمَنْ عَفَا وأصلَحَ فأجْرُهُ علَى الله )
أجرنا ليس على والدنا ولا على وزيرٍ ولا ملكٍ من ملوك الأرض
وإنّما أجرنا على ملك الملوك سُبحانه ، من بيده خزائن السموات والأرض
فماذا نتوقّع من أجرٍ وفضلٍ منه سُبحانه ؟!
ألا يكفينا أن نعلمَ أنّ الرجل من أهل الجنّة يقفُ على بابها لا يدخُلها حتّى يُقتصّ منه
في حقّ عليه لرجلٍ من أهل النّار !
ونحنُ نعيش في دنيانا هُنا سِنيناً تمضِي وأياماً تنقضِي
ولكنّها تُحدّد مُستقرّنا في آخرتنا ومكانتنا
فدخول الجنّة يكون بالفضل ، ولكنّ المنازل فيها بالعدل
ونسأله أن يعاملنا بفضله حتّى في المنازل ولا يُعاملنا بعدلهِ سُبحانه ..
ومن يظلم هُنا فإنّ خصمه هُناك هو الذّي لا يظلم ولا يقف في صفّ الظّالم وهو ربّنا سُبحانه
( إنّ اللهَ لا يظْلِمُ مِثقَالَ ذَرّة )
أليسَ الأولى أن نُسامِحَ ونعفُو ونصفح طالبينَ الأجرَ من العَفُوِّ سُبحانه ؟
فلماذا لا نعفُو هنا ليعفُو هناك ؟
ولماذا لا نتجاوزُ هنا ليتجاوزَ عنّا هناك ؟
لماذا لا نعامل الله من وراءِ خلقهِ ؟ ونتسامح من أجلِ الله وحده وليسَ لغيره ؟
وماذا نُريدُ من وراء دُنيا لا تُساوِي عندَ الله جناحَ بعوضَة ؟
كلّها بذهبِها وقُصورِها وجِنانِها وكنوزِها .. لا تُساوِي عندَ الله جناحَ بعوضة
فلماذا نتهافَتُ عليها ونتصَارعُ من أجلِ شيءٍ تافه ؟
أنبتغِي الرّفعة عند النّاس ؟ فماذا تنفعنا الرّفعة عندهم إن كنّا لم نرتفعُ عند الله ؟
وفي الحديث عن أبي هريرة ..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( ما زادّ اللهُ عبداً بعفوٍ إلّا عِزّاً ، و ما تواضعَ أحدٌ للهِ إلا رفعهُ الله ) صحيح الجامع
يُحدّثُ أحدُ الأطباءِ عن زميلٍ له كان يقفُ معه في المستشفى ،
ومرّ موظف يعمل في الإدارة ، وكان لهذا الطبيب معاملة عند الموظّف
فسأله عنها مستفسراً ، وكان الموظّف متوتراً بعض الشّيء
فردّ على الطبيب ردّاً غيرَ لائقٍ ..
فأجابه الطبيب بكلّ أدبٍ : هل قلتُ لكَ ما يُغضب ؟ أنا سألتكَ سؤالاً فقط !
فما كان من الموظف إلا أن غضب جِدّاً وبصقَ في وجهِ الطّبيب !
وهنا وقفةٌ قبل أن نُكملَ القِصّة .. ما موقفنا لو كنّا مكان الطّبيب ؟
...
ما كان من الطّبيب إلا أن قفز سريعاً وقَبّلَ رأسَ المُوظّف !!
وهو يقول : سامحنِي .. لقد أخرجتكُ عن طورِك وأغضبتك !!
فاحمّر وجه الموظّفِ وتصبّب عرقاً .. وانسحبَ مُتخاذِلاً !
فسأله زميلُهُ : لماذا لم تَردّ عليه وقُمتَ بتقبيلِ رأسه ؟!
قال : لا أريدُ أن يتحمّل إثماً بسببِي .. فقد يغتابنِي ويكتسب إثماً وأكونُ أنا السّبب !
سبحان الله .. رجلٌ أراد الرّفعة عند الله ولم يهتمّ بموقف النّاس منه !
وبهذا ازداد رفعةً عند النّاس وعند الله بإذنِ الله
يقول عمر رضي الله عنه ( ما عاقبتَ من عصَى اللهَ فيكَ بمثلِ أن تُطيعَ اللهَ فيه )
( ولا تستوِي الحَسَنةُ ولا السّيّئة اِدفعْ بالتّي هِيَ أحسَن فإذا الذّي بينكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حمِيم *
وما يلقّاها إلا الذّين صبرُوا وما يلقّاها إلا ذُو حَظٍ عظِيم )
والآن هل عزمنا على العفو ؟ قد نقول : نعم عفونا
لكنّنا إن تذكّرنا ما حصل نشعر في قلوبنا حرجٌ وضيقٌ ممن ظلمنا أو تكلّم عنّا أو اتّهمنا ؟
فإليكم العلاج الشّافي بإذنِ الله ..
علينا بالدّعاء بإلحاحٍ أن يرزقنا الله قلوباً سليمة
فمن وصلوا قبلنا لم يصِلُوا إلا بسخاءِ الأنفسِ وسلامةِ الصّدور
و( لن يصلُحَ آخرَ هذهِ الأمّة إلا بصلاحِ أولها ) وما صلح أولها إلا بصلاحِ قُلوبهم
ولنلزم هذا الدّعاء ( ربّنا لا تَجعلْ فِي قُلوبِنا غلِاًّ للذّين آمنوا )
فهو وحده القادر على إزالة ما علَقَ في النّفوس .. لتعودَ صافيةً نقيّةً لا تُفكّر إلا في رضاه ..
لنُعاملَ الله من وراء خلقهِ ولنصفح عن كلّ أحدٍ لوجههِ سُبحانه
وليسَ تفاخراً ولا طلباً لثناءِ النّاس علينا
ولنتخيّل لو أن إحدانا كانت الرّابعة مع أصحاب الغارّ الذيّن أقفلتْ عليهم الصّخرة
وتوسّل كلّ منهم بما قدّمَ لربّه .. وجاء دوركِ !
فماذا لديكِ من عملٍ صالحٍ تقدميهِ بين يديّ الله ؟
أو لا يصلُحُ العفوَ ليكونَ وسيلةَ إلى طلبِ رضا ربّكِ عنكِ ؟
والعفوُّ منزلة عالية .. عالية .. لا يصلُ إليها كلّ أحد !
( وما يُلقّاهَا إلّا الذّينَ صَبرُوا ومَا يُلقّاهَا إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيم )
لنستعين بالله فلن يُصلح قلوبنا إلا هو ، وليس لنا حولٌ ولا قوّة لإصلاح قلوبنا إلا إذا أعاننا سُبحانه
ولنتمثّل العفو والصّفح ، وعلامتهُ الدّعاء بصدقٍ لكلّ من ظلمنا ..
والبدء بالسّلام .. والصّلة بالهدية .. والزّيارة ..
لِنُرغِم أنفسنا ونجاهد الشّيطان على هذا برغم صعوبة الأمر ، ونكون من يبدأ بكلّ هذا ..
وتذكري ( والذّين جَاهدُوا فِينَا لنَهدِينّهُم سُبُلنا )
ولنتذكّر أنّ أمامنا موقفٌ عصيبٌ لن ينفعنا فيه إلا قلوباً سليمة
( يومَ لا ينفَعُ مَالٌ ولا بَنُونٌ إلا منْ أتَى اللهَ بِقَلبٍ سلِيم )
وقال ابن القيّم ( أنّه الذّي قد سَلِمَ من كلّ شهوة تخالف أمر الله ونهيه
ومن كل شبهة تُعارض خبره )
فهذا هو السّليم من الآفات التّي تعتري القلوب المريضة من مرض الشّبهة التي توجب اتّباع الظّنّ ،
ومرض الشّهوة التّي تُوجِبُ اتّباع ما تهوى الأنفس ، فالقلب السّليم الذّي سلم من هذا وهذا
ولنعلم أنّه كلما ازداد توحيد العبد ازداد صفاءُ قلبه ونقاؤه
وابتعد عن كلّ ما يشوبه من حقدٍ وحسدٍ وبغضاءٍ وشحناء
لنتذكّر قول الله تعالى ( وليَعفُوا وليصفَحُوا ألا تُحبّونَ أن يغفِرَ اللهُ لكُم )
ألا نحبُّ أن يغفرَ اللهُ لنا ..؟
قال أبو الدرداء ( أدركتُ النّاس ورقاً لا شوكَ فيه ؛
فأصبحوا شوكاً لا ورقَ فيه ؛ إن نقدتهُم نقدُوك ، وإن تركتُهُم لا يتركُوك !
قالوا : فكيف نصنعُ ؟ قال : تُقرضهُم من عِرضِك ليومِ فقرِك ؛ ليومِ فقرِك ! )
:
وهذه دعوةٌ لكلّ قلبٍ لا زالت فيهِ بعضٌ من رُوح ..
ولم تُميته بعدُ غوائِلُ الشّحناءِ والبغضاء
دعوةٌ لكلّ قلبٍ لازالَ حيّاً بذكرِ اللهِ يطلبُ رِضاهُ ويسعَى للُقياه
دعوةٌ لكلّ قلبٍ سَاقهُ ربّي لقراءةِ هذهِ السّطور
دعوةٌ لتنقية القلب من الحقد والشّحناء
دعوةٌ للعفو والصّفح من أجلِ الله وحده .. وليسَ من أجل دنيا زائلة
دعوةٌ لصفاءِ قلبٍ يقفُ بين يديّ الله كلّ يوم وقد تفرّقت به طرقُ الدّنيا في كلّ إتّجاه
فيخرجُ من الصّلاة لم يعي شيئاً منها !
وهو يفكر كيف سينتقم من هذه وكيف سيأخذ حقّه من ذلك
وبماذا سيتّهم من اتّهمته ، وبماذا يردّ على من شتمه !
فكيف نلقَى الله بمثلِ هذا القلب ؟!
وهل نحن راضُونَ بأحمالنا التّي تُثقِلُ هذه القلوب ؟!
نسأله سُبحانه أن يغفرَ لنا ما قدّمنا وما أخّرنا ، وما أسررنا وما أعلّنا ، وما هُو أعلم بهِ منّا
وأن يرزقنا قلوباً سليمة نلقاهُ بها .. ويرضَى بها عنّا
اللهم آآآمين
:
عُذراً على الإطالة
تقبّل الله أعمالنا وإيّاكم خالصةً لوجههِ سُبحانه
وعلّمنا ماينفعنا ونفعنا بما علّمنا
والحمدُ للهِ ربّ العالمين
والصّلاة والسّلام على محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين
:
بقلم وقلب : قطــرات
()
:
الروابط المفضلة